كتيبية القمر
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

كتيبية القمر

منتدى علمي تايخي ثقافي أدبي ترفيهي تراثي لغوي
 
الرئيسية<!-- twitter foأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 أنوار رمضان

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
SEMSOUMA
مديرة
مديرة
SEMSOUMA


عدد المساهمات : 256
نقاط : 19525
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 26/06/2011
العمر : 27
الموقع : OMAIMA

أنوار رمضان Empty
مُساهمةموضوع: أنوار رمضان   أنوار رمضان Emptyالجمعة يوليو 22, 2011 4:42 pm

إنَّ الحمد لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ونعــوذُ باللهِ من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ...
أما بـــــــــعد:

السلام عليكم ورحمة الله

من أنوار رمضان

1- رمضان والتوبة:

- هل تشكو مثلي من كثرة الذنوب، وطُغيان الهوى في القلوب؟

- هل تعاني مثلما أُعاني من ظلمات الشهوة وطول الغَفلة؟



أيها الراغبون في التوبة، أيها المشتاقون إلى الأَوْبة، أبْشروا؛ أتاكم شهرُ الغُفران المُرتجى، والعطاء والرضا، والرأفة والزُّلفى، أتاكم شهر الصفح الجميل، والعفو الجليل، أتاكم شهر النَّفحات وإقالة العثرات، وتكفير السيِّئات، فليكُن شهركم بداية مولدكم وانطلاقة رجوعكم، وإشراق صُبحكم وتَباشير فجركم، وأساس توْبَتكم.



إخواني في الله، هَلُمُّوا إلى ربكم، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربِّكم ممنوح.



فالتوبة: "ملاذ مَكين، ومَلجأ حصين، دَنَسُ المعاصي يُغسَل بماء التوبة، ولوثة الخطايا تُزال بزُلال الاستغفار، والتوبة هروب من العِصيان إلى الأُنس بالرحمن، هروب من السيِّئة إلى الحسنة؛ إنها فِرار من الخالق إلى أعتابه، وهروب من الجبَّار إلى رحابه"[1].



والتوبة: "افتقار إلى الله وانكسارٌ، واستغفار واعتذار من الذنب والناس هجوع (نيام)، وتذلُّل بين يديه وخضوع، وإقلاع عن الذنب ورجوع، وعَزْم وعهْدٌ على الابتعاد عن المعاصي وأسبابها، ومُقترفيها وأمكنتها فيما هو آتٍ، ورَدٌّ للمظالِم والحقوق المُغتصبة بغير حقٍّ إلى أصحابها"[2].



والتوبة: "ندَمٌ على اقتراف الذنب والشعور بلَدغه وكيِّه، والندم هو بيت القصيد، وحجر الزاوية، وقُطب الرَّحى في التوبة، فمَن لَم يَشعر به حسرة تَغمره، ونارًا تتأجَّج في قلبه، فليس بتائب - وإن ادَّعى"[3].



والتوبة: نداء الله - عزَّ وجلَّ - المتلطِّف لعباده بألاَّ يَقنطوا من رحمته، أو يَيْئَسوا من مَغفرته؛ ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].



وما أجْمَل التصوير النبوي لفرحة الله - عزَّ وجلَّ - بتوبة عبده، وانطراحه بين يديه؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرضٍ فَلاة، فانفَلَتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأَيِس منها، فأتى شجرة، فاضطجَع في ظلِّها وقد أَيِس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخَذ بخُطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدة الفرح))؛ رواه مسلم.



فيا له من فضْلٍ عظيم، وعطاءٍ جسيم من ربٍّ كريم، وخالق رحيم، أكرَمنا بعفوه، وغشَّانا بحِلمه ومغفرته، وجلَّلنا بسِتره، وفتَح لنا باب توبته؛ يعفو ويَصفح، ويتلطَّف وبتوبة عبده يفرح، يَبسط يده بالليل؛ ليتوب مُسيء النهار، ويَبسط يده بالنهار؛ ليتوب مُسيء الليل، حتى تَطلُع الشمس من مغربها، وهو القائل - جل في علاه - في الحديث القُدسي:



"يا ابن آدم؛ إنَّك ما دعوتني ورَجَوتني، إلاَّ غَفَرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغَتْ ذنوبك عَنان السماء، ثم استغفرتني، غَفَرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم جِئتني لا تُشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرة"؛ أخرجه الترمذي.



فمتى يتوب مَن أسرَف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي، إنْ لَم يَتُب في شهر رمضان؟! ومتى يعود إن لَم يَعُد في شهر الرحمة والغفران؟!



أخي الحبيب، اعلم أنَّ الإنسان يولَد مرتين: يوم يخرج من ظلمة رحم أُمِّه إلى نور الدنيا، ويوم يخرج من ظُلمات المعصية إلى نور الطاعة، فيا لها من فرصة يفرح القلب بها ويَسعَد حينما يرجع إلى ربِّه نادمًا، ويَلحق برَكْب الصالحين، فأين أنين المذنبين؟ أين بكاء النادمين؟ أين خشوع الخائفين؟



فيا أيها العاصي، لا تَقْنَط من رحمة الله بسوء أعمالك، فكم يَعتق من النار في هذه الأيام من أمثالي وأمثالك، فأحْسِن الظنَّ بمولاك وتُب إليه؛ فإنه لا يَهْلِك على الله هالك، وردِّد معي:


يَارَبُّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً
فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ

إِنْ كَانَ لاَ يَرْجُوكَ إِلاَّ مُحْسِنٌ
فَبِمَنْ يَلُوذُ وَيَسْتَجِيرُ الْمُجْرِمُ

أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا
فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ

مَالِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلاَّ الرَّجَا
وَجَمِيلُ عَفْوكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ



2- رمضان والتقوى:

قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].



والأستاذ سيد قطب - رحمه الله - يَشْرح:

"وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم، إنها التقوى؛ فالتقوى هي التي تَستيقظ في القلوب، وهي تؤدي هذه الفريضة؛ طاعةً لله وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تَحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تَهجِس في البال، والمخاطَبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلَّع إليها أرواحهم، هذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصِّل إليها، ومِن ثَمَّ يرفعها السياق أمام عيونهم هدفًا وضيئًا، يتَّجهون إليه عن طريق الصيام؛ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.



التقوى: خير الزاد، وخير اللباس، ووصيَّة الله للأوَّلين والآخرين، وهي العُدَّة في الشدائد والعون في المُلمات، ومَهبط الرَّوح والطمأنينة، ومُتَنَزَّل الصبر والسكينة.



التقوى: أن تَجعل بينك وبين غضب الله - وعقابه وعذابه - وقايةً؛ وذلك بفعْل طاعته واجتناب معصيته، فالإنسان مفطور على التوقِّي من كلِّ ما يؤلِمه أو يضرُّه، حتى إنه يتوقى من حرِّ الشمس ومِن ألَم البرد باللجوء إلى ظلِّ سقفٍ أو حائط أو شجرة، فما أحوَجه إلى ما يَقيه وقاية حسيَّة ومعنويَّة مما يضرُّه في الدنيا والآخرة نتيجة عِصيانه لله.



التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله، ترجو ثواب الله، وأن تتركَ معصية الله على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله.



التقوى: "حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرَّة، وحَذَرٌ دائم، وتَوَقّ لأشواك الطريق، طريق الحياة الذي تتجاذَبه أشواكُ الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجِس، وأشواك الرَّجاء الكاذب فيمَن لا يَملِك إجابة رجاءٍ، والخوف الكاذب ممن لا يَملِك نفعًا ولا ضُرًّا، وعشرات غيرها من الأشواك"[4].



التقوى: ما أسهلَ لفظها! وما أصعَب تطبيقها! لا يُطيق تطبيقها إلاَّ الأفذاذ من المؤمنين الذين اشتروا الآخرة، وباعوا الدنيا.



أخي في الله، قل لي بربِّك إذا خرَجت من رمضان وقد فُزت بالتقوى، ماذا بَقِي من الخير ما حُزْته؟! ومن البركات ما حصَّلتها؟! فلن يَهْلِك من كانت التقوى زادَه؛ ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72].



فما قيمة الإنسان بلا تقوى؟! وما قيمةُ الصوم إن لَم يُثمر خشية ومُراقبة، وتوبة وإنابة؟! ما قيمة الصوم إن لَم يُثمر إرهافًا في الشعور، وشفافية في الحِسِّ، ومُجانبة للخطيئة؟!



ما قيمة الصوم إن لَم يكن محاكمةً للضمير، ومُحاسبة للنفس، ومراجعة للماضي، واستحضارًا واعترافًا دائمًا، معناه: ربِّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، وإلاَّ تَغفر لي وترحمني، أكنْ من الخاسرين؟!



وهكذا أخي القارئ، تذكَّر إذا هَمَمت بما لا يَحْسُن فِعْله في رمضان - فأمْسَكت عنه؛ لأنك صائم - أن الإسلام يريد منك كلما هَمَمت بما لا يَحْسُن فِعْله أن تُمسِك عنه؛ فالإمساك عن ذلك هو (التقوى).



وعن سِرِّ ختام آية الصيام بالتقوى يُحدِّثك الدكتور ناصر الزهراني:

"فالصيام تهذيب وتدريب للإنسان على الكمال الرُّوحاني الذي يؤهِّله لأن يكون من أهل الآخرة؛ لأنَّ التقوى درجة كبيرة من الشفافية، ومنزلة بديعة من المراقبة، إنها استحضار عَظَمة الباري، واليقين بمراقبته والحياء من اطِّلاعه، إنها المنزلة التي إذا ارْتَقَى إليها العبد، قرَّت عينه، وزكا قلبه، وصفا ذِهْنه، وهُذِّبت أحاسيسه، وتألَّقت مشاعره، وامْتَلأَت رُوحه بجلال الله، ومَضَت مسيرته على نور من الله، فالسير في رضاه، والنُّطق في طاعته، والسماع لِمَا يُرضيه، والأكْل مما أباحَه، والشرب مما أحَلَّه، والكسب مما شرَعه، فهو لله، وفي الله، وبالله".



3- رمضان والحرية:

إنَّ صوم رمضان منهاج يتدرَّب به المرءُ على تحرير نفسه، والانسحاب بها من أَسْر المادة وظُلمة الشهوة؛ ليحيا ما شاء الله في ملكوت الحياة الحقِّ، ويكون له ما شاء الله من خصائص الخير والفضيلة، فالحريَّة الصحيحة لا يَذوقها ولا يُقَدِّرها إلاَّ من حَيَّ هذه الحياة.



وعن معنى الحرية الحقيقيَّة التي يحقِّقها الصيام، يحدِّثك د. مصطفي السباعي - رحمه الله:

"وليست الحرية كما يظنُّها كثير من الشباب أن يَنطلق الإنسان وراء أهوائه وشهواته، يأكل كما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويحقِّق كلَّ ما يهوى ويريد، فتلك هي الفوضى أولاً والعبودية الذليلة أخيرًا، حين تستولي على الإنسان عادة الانطلاق وراء كلِّ لذَّة، والانفلات من كلِّ قيْدٍ يكون قد استعبدتْه اللَّذة على أوْسع مدًى، وأصبَح أسيرَها يجري في الحياة تحت إرادتها ووَحْيها، لا يعمل إلاَّ ما تريد، ولا يستطيع فَكاكًا مما تهوى.



فما هذه الحرية التي تنقلب إلى عبوديَّة لأهون ما في الحياة من قيمة ومعنى؟!



وحين ينطلق الإنسان وراء فتاة يهواها أو وراء الغانيات يُشبع بهنَّ لذائذه، أيستطيع أن يزعم أنه حُرٌّ من سلطانهنَّ؟ ألا تراه أسيرَ اللحظات، رَهْنَ الإشارات، شارِدَ اللُّب، أقصى أمانيه في الحياة بسمة من حبيب هاجِر، أو وصال من جسم مُمتنع؟! أيَّة عبوديَّة أذَلُّ من هذه العبوديَّة، وهو لا يَملِك حريَّته في الحبِّ والكُره، والوَصل والمنَع، والرضا والغضب، والهدوء والاضطراب؟!



ليست العبوديَّة قيْدًا ولا سجنًا فحسب، فهذه أهون أنواع العبوديَّة وأسرعها زوالاً، ولكن العبودية الحَقَّة: عادةٌ تتحكَّم، وشهوةٌ تستعلي، ولذةٌ تُطاع، وليست الحرية هي القدرةَ على الانتقال من بلدٍ إلى بلد، فتلك أيسرُ أنواع الحرية وأقلُّها ثمنًا، ولكن الحرية الحَقَّة أن تستطيع السيطرة على أهوائك ونوازع الخير والشر في نفسك، إنَّ الحرية الحَقَّة ألاَّ تستعبدَك عادةٌ، ولا تستذلَّك شهوةٌ.



إنَّ أوسَعَ الناس حرية أشدُّهم لله عبوديَّة، هؤلاء لا تستعبدهم غانية، ولا تتحكَّم فيهم شهوة، ولا يستذلهم مالٌ، ولا تُضيِّع شهامتَهم لذَّةٌ، ولا يَذِلُّ كرامتَهم طمعٌ ولا جَذَعٌ، ولا يَتَملَّكهم خوفٌ ولا هَلَعٌ، لقد حرَّرتْهم عبادةُ الله من خوف ما عداه؛ ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 - 64].



وما أجمل قول ابن عطاء الله - رحمه الله: "أنت حُرٌّ مما أنت عنه آيِس، وعبد لِمَا أنت فيه طامع".



والدكتور البوطي يشرح: "إنَّ يأْسَك من الشيء يعني تحرُّرك من سلطانه، وخروجك من أسْر التذلُّل له، وحاجة تودُّدك إليه، واستعطافك له، في حين أنَّ آمالَك في إمكان الاستفادة منه يُطمِعك فيه، وطَمَعُك فيه يُوقِعك في براثن العبوديَّة له".



أخي في الله: "لئن كانت قيمة الإنسان بمقدار ما ينال من لذائذه، فإنَّ الحيوان أكثرُ منه قيمة وأعلى قدْرًا، إن الحيوان هو الذي يسعى وراء لذَّته بلا قيْد ولا هدف، ومَهْمَا جَهَد الإنسان أن ينال من لذائذه ما يهوى، فإنه مُلاقٍ في سبيل ذلك - رغم أنفه - عوائقَ تَمنعه من بعض ما يريد، فهل يزعم أحدٌ أنَّ الحيوان الذي لا يعوقه دون استكمال لذَّته عائقٌ أكثرُ من الإنسان حرية، فهو أكثر منه سعادة؟!"[5].



4- رمضان وتهذيب الرُّوح:

فرَض الله تعالى الصيام؛ ليتحرَّر الإنسان من سلطان غرائزه، ويَنطلق من سِجن جسده، ويَتغلَّب على نزعات شهوته، ويتحكَّم في مظاهر حيوانيَّته؛ لأنه "إذا تَغلَّبت هذه الطبيعة الحيوانيَّة ومَلَكت زمام الحياة، واسْتَحْوذت على مشاعر الإنسان وحياته، وأصبَحَت (المعدة) القطب الذي تدور حوله الحياة، شَقَّ على الإنسان كلُّ ما يحول بينه وبين رغبته، وما يشغله عن إرضاء نَهْمَته، وكلُّ ما يُذَكِّره بمبدئه ومصيره، فلا يجد في أعوام طوال وقتًا صافيًا، وقلبًا فارغًا، وعقلاً يَقظًا، وضميرًا حيًّا، فتَثقل عليه العبادة والذِّكر وما يتصل بهما، ولا يجد لذَّتهما"[6].



وما أجمل قول الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله:

"شرَع الصيام للناس؛ فطامًا لأنفسهم عن شهواتها المألوفة، وقهرًا لعاداتها المستحكمة، وتدريبًا للإرادة في صراعها مع الغرائز السُّفلى، وإطلاقًا للرُّوحانيَّة الحبيسة في سجن الضرورات المتكرِّرة أبدًا، ضرورات الغذاء والكساء، وكأنَّ الإسلام يريد إشعار الإنسان بأصْله العريق المُنبثق من رُوح الله، ويُريد تحريره من آصار الأرض، ويُريد أن يجعلَ من أيام هذا الشهر المبارك فُرَصًا للتزوُّد من عناصر السمو ومعاني الطُّهر، وادِّخار مقدار من ذلك يَبقى مع المرء طول السَّنة، كما تُدَّخَر قوى الكهرباء في مستودعاتها عندما (تُملأ بكميَّة) ضخمة، فتظل تُضيء وتحرِّك، حتى إذا فرغت، مُلِئت (البطارية) ثانية، وهكذا يجيء رمضان فيَمْلأ النفوس خيرًا وتُقى، كلما ضَعُفت فيها دوافع البر والتقوى".



وصدَق الشيخ الغزالي، فأثناء الصيام وخُلو المعدة، أو تخفُّفها من الطعام، تسمو الرُّوح ويصفو القلب، وتَزول الحُجُب وجواذب الأرض، فيكون الصفاء والإشراق، ويشعُّ نورُ الحق في القلوب، فيُضيئُها، وتتهيَّأ النفس للتزكية بالذِّكر وتلاوة القرآن، والاستغفار والتوبة والدعاء، وتكون السعادة الحقَّة والمُتعة الرُّوحيَّة، والشعور بالقُرب من الله.



أخي في الله، اعلم "أنك تصوم وليس لله حاجة إلى طعامك وشرابك؛ كي يشهدَ حالك أن نداء السماء أعزُّ عليك من شهوة جسدك، فتَنقدح بذلك شرارات تُزكي رُوحك، وتُبدِّد ظُلمة نفسك"[7].



5- رمضان والصبر:

"الصبر قوَّة خلقيَّة من قوى الإرادة، تمكِّن الإنسان من ضبْط نفسه؛ لتحمُّل المتاعب والمَشقَّات والآلام، وضبْطها من الاندفاع بعوامل الضَّجر والجَزَع، والسأم والمَلل، والغضب والطيْش، والخوف والطمع، والأهواء والشهوات والغرائز"[8].



ورمضان شهر الصبر؛ لِمَا فيه من حبْس النفس عن المُفطرات المادية والمعنويَّة، فحَبْس النفس عن شهواتها في أيام شهر كامل، فيه تدريب لها على اكتساب الصبر؛ لأنه مَن استطاع بإرادته أن يكفَّ نفسه عن الشهوات المباحة في غير الصوم، والتي يُمارسها في العادة، ويَصبر على كفِّ نفسه عنها خلال أيام شهر كامل، استطاعَ أن يكفَّ نفسه بعد ذلك، فيَصبر عن الشهوات المحرَّمة، ويَصبر على الطاعات التي فيها تكليف للنفس، ويَصبر على المصائب؛ لأنه قد تدرَّب بالصيام المشروع في رمضان على خُلُق الصبر.



"أليس ما يتطلَّبه الصوم من الصائم أن يكون على سَمتٍ خاص في العبادة، وأن يكفَّ نفسه عن شهوات بطنه وفرْجه، ولسانه عن الفُحش في القول، وجوارحه عن فعْل ما يؤثم؟



وهل الصبر إلا حَبْس النفس على ما تَكره، وصرْفها عمَّا تحبُّ وتشتهي؟



فالصبر ثمرة من ثمرات الصوم وغاية من غاياته"[9].



والصبر ثلاثة أنواع - كما قال أهل العلم، وهي: صبْر على طاعة الله، وصبْرٌ عن معصية الله، وصبْرٌ على أقدار الله، ومرجع هذا أنَّ العبد في هذه الدنيا بين ثلاثة أحوال: بين أمرٍ يجب عليه امتثاله، وبين نهي يجب عليه اجتنابه وترْكه، وبين قضاء وقدرٍ يجب عليه الصبر فيهما، وهو لا ينفكُّ عن هذه الثلاث ما دام مُكلفًا، وهو محتاج إلى الصبر في كل واحدٍ منها.



- فما أحوجنا إلى الصبر في زمان تلوَّنت فيه الشُّبهات، وتزيَّنت فيه المنكرات، وتَزَخْرفت الدنيا، وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها.



- ما أحوجنا إلى الصبر وقد حشَد الشيطان جنوده وأتْباعه، من أجْل إغواء الناس وإضلالهم، وصدِّهم عن طاعة الله وعبادته.



- ما أحوجنا إلى الصبر إذا ادْلَهَمَّت الأمور، وعَظُمت المصائب، ونزل المكروه، وانسدَّت المطالب، وهيْمَن القلق، واشتدَّ الخوف.



وللدكتور محمد كمال الشريف كلام رائعٌ حول دور الصيام في نُضج الشخصيَّة عن طريق الصبر:

"الصيام امتناع عن إشباع بعض رغبات النفس، وبعض حاجات البدن، وذلك من الفجر إلى غروب الشمس، ففي الصيام امتناعٌ عن الأكل إذا جُعنا، وعن الشرب إذا عَطِشنا، وعن الاستجابة الفورية لبعض شهواتنا، وفي هذا الامتناع تدريبٌ للنفس على ما سَمَّاه علماء النفس "تأجيل الإشباع"، والقدرة على تأجيل إشباع الرغبات تميِّز ما بين الطفل الصغير والبالغ الراشد، وتميِّز ما بين ناضج الشخصيَّة وقليل النُّضج فيها.



فالطفل إذا رغِبَ في شيء ألَحَّ عليك؛ لتُعطيه إيَّاه، وتراه قد استحوذَ عليه التفكير في هذا الشيء الذي رغِبَ فيه، ولَم يَبق لديه صبرٌ على الحِرمان منه، وكثيرًا ما يبكي الطفل إن لَم يحصل على ما رغِبَ فيه على الفور، ومع التقدُّم في العُمر يَنضج هذا الطفل من الناحية النفسية، ويُصبح أكثر صبْرًا على عدم حصوله على ما يُلبِّي رغباته حصولاً فوريًّا، لكن ذلك يتفاوت من طفل إلى آخر، وكذلك الكبار يتفاوتون في صبْرهم على عدم إشباع رغباتهم إشباعًا فوريًّا، لا تأجيل فيه، فحتى بعد بلوغ الإنسان رُشده يبقى هنالك مكان لِمزيد من النُّضج في الشخصيَّة، ولاكْتِساب المزيد من القدرة على (تأجيل الإشباع).



إنَّ الصبر على عدم حصول النفس على مُشتهاها على الفور، جانِبٌ مهمٌّ من جوانب نُضج الشخصية الإنسانيَّة، ويأتي الصيام في رمضان بمثابة دورة تدريبيَّة سنوية على هذا الصبر، وبمثابة دَفعة جديدة نحو المزيد من نُضج الشخصية لدى المؤمن، والاستعجال في الحصول على شهوات النفس صفة إنسانيَّة تكون على أَشُدِّها عند من لَم يُهذِّبه الإيمان؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ﴾ [الإسراء: 11].



6- رمضان والمراقبة:

بين الصيام والمراقبة صِلة وثيقة، فالصوم في الحقيقة سرٌّ بين العبد وربِّه، لا يَطَّلِع على حقيقته إلاَّ الله، وما يزال الصوم يقوِّي من صفة المراقبة؛ حتى تصير مَلَكة من الملكات النفسيَّة، وإذا صارَت مَلَكة راسخة، تحكَّمت في سلوك الإنسان ووجَّهته إلى المسارعة في الخيرات والإحجام عن المنكرات، فكلما أمَرته نفسه الأمَّارة بالسوء بمنكرٍ، تذكَّر رقابة الله تعالى واطِّلاعه عليه، وصدَق الله حيث يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].



والمراقبة هي دوام عِلْم العبد وتيَقُّنه باطِّلاع الحق - سبحانه وتعالى - على ظاهره وباطنه، وهي ثمرة عِلْم العبد بأنَّ الله رقيب عليه، ناظرٌ إليه، سامعٌ لقوله، وهو - سبحانه - مُطَّلع على عمله كلَّ وقتٍ وكلَّ لحظة، وكلَّ طرفة عين؛ ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4]، قال الحارث المُحاسبي: "والمراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل، ومراقبة الله في معصيته بالتَّرْك، ومُراقبة الله في الهمِّ والخواطر".



ولله دَرُّ القائل:


إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلاَ تَقُلْ:
خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ

وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفُلُ سَاعَةً
وَلاَ أَنَّ مَا يَخْفَى عَلِيْهِ يَغِيبُ



"فيا مُطلقًا نفسَه فيما يشتهي ويُريد، اذْكر عند خُطواتك المُبدئ المُعيد، وخَفْ قُبْحَ ما جرى؛ فالمَلك يرى، والملك شهيد؛ ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].



هلاَّ استحييتَ ممن يَراك إذا رَكِبت من هواك ما نهاك، ستبكي - والله - عيناك مما جَنَت يداك، أمَا تعلم أنه بالمرصاد، فقل لي: أين تَحيد؟ ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾[ق: 16].



لو صدَق عِلمُك به لراقبتَه، ولو خِفْت وعيده في الحرام ما قارَبته، ولو عَلِمت سمومَ الجزاء في كأس الهوى ما شَرِبتَه؛ ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16].



ما ظنُّك بِمَن يُحصي جميع كلماتك، ويَضبط كلَّ حركاتك، ويشهد عليك بحسناتك؟ أتظنُّ أنك متروك، مُهمَل؟ أم تَحسِب أنه يَنسى ما تعمل؟ أم تَعتقد أنَّ الكاتب يغفل؟ كلاَّ ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16][10].



7- رمضان وصحوة القلب:

القلب هو مَخزن الدوافع ومحلُّ الإرادة، بصلاحه يفوز الإنسان، وبفساده يَهلِك؛ مصداقًا لقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((ألا وإن في الجسد مُضغة، إذا صَلَحت صَلَح الجسد كلُّه، وإذا فَسَدت فَسَد الجسد كله، ألاَ وهي القلب))؛ متفق عليه.



فالقلب هو الملك على الأعضاء والجوارح تَبَعٌ له، فعمَلُ القلب هو رُوح العبوديَّة ولُبُّها، فإذا خلا عملُ الجوارح منه، كان كالجسد الموات بلا رُوح.



وعلى ساحة القلب تَدور معارك طاحنة بين داعي الإيمان وداعي الشيطان، وأيُّهما انتصَر سَخَّر الجوارح لخدمته.



وصاحب الإحياء - رحمه الله - يكمل الصورة:

"القلب هو العالِم بالله، وهو المتقرِّب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وإنما الجوارح أتباع وخَدَمٌ وآلات يستخدمها القلب، ويستعملها استعمالَ المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعيَّة، والصانع للآلة، وهو الذي يَسعد بالقُرب من الله، فيُفلح إذا زكَّاه، ويَخيب ويشقى إذا دنَّسَه ودسَّاه، وهو المُطيع بالحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرِّد على الله تعالى، وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثارُه، وبإظلامه واستنارته تَظهر محاسنُ الظاهر ومساويه؛ إذ كلُّ إناءٍ يَنضَح بما فيه".



إن القلب عندما يخوض في حَمْأة الشهوات ووَحَلِ المَلذات، ويُصبح سجينًا للأهواء والمُغريات، تتلقَّفه أيدي الشياطين، فتُسِدل عليه رُكامًا من الغِشاوات، فيعيش في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يكاد يرى للنور سبيلاً.



وهنا يأتي دور الصيام الذي يحمي النفس من بواعث الشهوات، ويُحرِّرها من أسْر الغرائز، ويرفع عنها ثِقَل المُلهيات؛ مما يعطي القلب فرصةً للتأمُّل والتفكر والتبصُّر، فيستعيد عافيته، وتَستيقظ فِطرته، ويُصبح جاهزًا لتلقِّي الأنوار الإلهيَّة.



إخواني في الله، ما أحوج قلوبنا لأنوار رمضان؛ لتَنقلنا من ظلمة المعصية إلى نور الإيمان، ومن ارتكاب الزَّلات إلى النهوض بالطاعات، ومن دَنَس الفجور إلى رياض التقوى.



ما أحوجنا إلى ولادة القلب من جديد، قلب لَم يتلطَّخ بمعصية، ولَم تَستعبده نَزوة، قلب رفَع شعار: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].



ما أحوجنا إلى القلب الصحيح السليم، قلب مَحشو بالإيمان، ومَليء بالنور الإيماني، انقشَعَت عنه حُجب الهوى والشهوات، وأقْلَعَت عنه تلك الظُّلمات، مليء بالإشراق؛ فقد سَلِم من كلِّ شهوة تُخالف أمر الله ونَهْيه، ومن كلِّ شُبهة تُعارِض خَبَرَه.



- علامات صحوة القلب:

1- وجَلُ القلب من الله وشعوره بالهيبة والإجلال؛ ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنفال: 2].



2- القشعريرة في البدن عند سَماع القرآن، ولين الجلود والقلوب إليه؛ ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].



فإذا ذُكِرت آيات العذاب، اقْشَعَرَّت جلود الخائفين لله، وتَضطرب النفس وتَرتعد بالخوف مما فيه من الوعيد، ثم تَسكن وتَطمئنُّ الجلود والقلوب عند سَماع آيات الرحمة.



3- خشوع القلب لذِكر الله؛ ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الحديد: 16].



فهو دائمُ الخضوع والانكسار لله، يَنكسر بين يديه في ذُلٍّ وخشوع، يعترف دومًا بضَعْفه وعجزه وفَقره، يشكو دائمًا هَمَّه وغَمَّه إلى مولاه، سريع التأثُّر بالموعظة، يَعشق السجود؛ لأن فيه انكسارًا لمولاه.



4- كثرة ودوام التوبة والإنابة إلى الله، فإذا ما تعرَّض للهفوات والزَّلات، ووقَع في المعاصي والسيِّئات، فإنه سَرعان ما يعود إلى ربِّه بالتوبة والاستغفار، فيُعلن ندَمَه، ويُظهر حُزنه وأسَفَه، ويَبكي على تقصيره في حقِّ ربِّه، ويُسارع لنيْل عفوه ومَغفرته؛ ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].



5- الأُنس بذِكر الله، والطمأنينة إلى مَعيَّته ورعايته؛ ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].



وخلاصة القول:

إنَّ حقيقة السعادة التي يَطلبها الناس في دنياهم وأُخراهم، لا تُنال بما تُمارسه الجوارح من أشكال العبادة، وإنما تُنال بما يقوم في القلب من أعمال، كالإخبات والتذلُّل، والخضوع والحب لله، والأُنس به، والخوف منه، والانكسار له، فشرود القلب في مواطن العبادة من أعظم المصائب التي تُصيب الإنسان في حياته؛ وذلك أن العبادة التي تؤدِّيها جوارحه ولا تَقوم في قلبه، لا تترك الأثرَ المطلوب على نفسه، ولا يتحقَّق بها أُنس ولا طمأنينة ولا راحة.



8- رمضان والإخلاص:

الإخلاص كما عرَّفه الدكتور القرضاوي هو:

"إرادة وجْه الله تعالى بالعمل وتصفيته من كل شَوْبٍ ذاتي أو دنيوي، فلا يَنبعث للعمل إلا لله تعالى والدار الآخرة، ولا يمازج عملَه ما يشوبه من الرغبات العاجلة للنفس الظاهرة أو الخفيَّة من إرادة مَغنم أو شهوة، أو مَنْصِب أو مال، أو شُهرة أو منزلة في قلوب الخَلْق، أو طلب مَدْحهم، أو الهرب من ذَمِّهم، أو إرضاء لعامَّة أو مُجاملة لخاصة، أو شفاء لحِقْد كامنٍ، أو استجابة لحسد خَفِي، أو لكِبْر مُستكن، أو لغير ذلك من العِلل والأهواء والشوائب، التي عَقْدُ مُتفرِّقاتها هو إرادة ما سوى الله تعالى بالعمل كائنًا مَن كان، وكائنًا ما كان.



والإخلاص بهذا المعنى: ثمرة من ثمرات التوحيد الكامل لله - تبارك وتعالى - الذي هو إفراد الله - عزَّ وجلَّ - بالعبادة والاستعانة، والذي يعبِّر عنه قوله - سبحانه - في فاتحة الكتاب وأُمِّ القرآن: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، والذي يناجي به المسلم ربَّه في صلواته كلَّ يومٍ ما لا يقلُّ عن سبع عشرة مرة بهذا الإخلاص المتجرِّد، يتخلَّص من كلِّ رِقٍّ ويتحرَّر من كل عبوديَّة لغير الله، عبودية الدينار والدرهم، والمرأة والكأس، والزينة والمظهر، والجاه والمنصب، وسلطان الغريزة والعادة، وكل ألوان العبوديَّة للدنيا التي استسلَم لها الناس".



ما أجمل هذا التعريف وما أشْمَلَه! وصدَق والله العلاَّمة القرضاوي، فالعمل بغير نيَّة عناءٌ، والنيَّة بغير إخلاص رياءٌ، والإخلاص من غير تحقيق هباء، فيا ليْتَ شعري، كيف يَصْلُح عمل بغير نية؟ ولماذا يُتعب المرء نفسه في مشقَّة ليس له فيها إلا الجهد والتعب؟ وللصوم علاقة وثيقة بالإخلاص، وخيْرُ دليل على ذلك الحديث القدسي الذي يرويه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ربِّ العزة والجلال أنه قال: "كلُّ عمل ابن آدمَ له إلاَّ الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به"؛ صحيح البخاري.



وتعليل اختصاص الصوم وجزائه بما ذُكِر في الحديث القدسي فيه كلام نفيس للعلماء، ومن ذلك:
1- أنَّ الصوم لا يقع فيه الرِّياء كما يقع في غيره.



2- أنَّ الصوم لا يظهر من ابن آدم بفعْله، إنما هو شيء في القلب، وذلك أنَّ الأعمال لا تكون إلا بالحركات إلا الصوم؛ فإنه بالنيَّة التي تَخفى عن الناس.



3- جميع العبادات تظهر بفعْلها، وقلَّ أن يسلمَ ما يظهر من شائبة بخلاف الصوم.



4- دخول الرِّياء في الصوم لا من جهة الإخبار بأن يقول للناس:إني صائم بخلاف بقيَّة الأعمال؛ فإن الرِّياء قد يدخلها بمجرَّد فعْلها.



فالصوم سِرٌّ بين العبد وربِّه، يفعله خالصًا ويُعامله به طالبًا لرضاه؛ فهو لربِّ العالمين من بين سائر الأعمال؛ فإنَّ الصائمَ لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجْل معبوده، فهو ترَك محبوبات النفس وتلذُّذاتها؛ إيثارًا لمحبَّة الله ومَرضاته.



إخواني في الله، ما أجمل الصيام حين نَجني من ثمراته الإخلاص، نعم إنه الإخلاص الذي نبحث عنه في كلِّ أعمالنا فلا نكاد نجده، الإخلاص الذي نعاني من فُقدانه في معظم عباداتنا، الإخلاص الذي هو سِرٌّ بين العبد وربه، لا يَطَّلِع عليه مَلَك، فيَكتبه، أو شيطان فيُفسده، الإخلاص ليس بالأمر الهَيِّن، بل يحتاج إلى مُجاهدة للنفس، ومراقبة دائمة لمداخل الشيطان إليها، وهذا ما توصَّل إليه سهْل التستري - رحمه الله - عندما سُئِل: أيُّ شيء أشدُّ على النفس، فقال: "الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيبٌ".



الإخلاص الذي قال عنه الإمام ابن القيِّم - رحمه الله: "العمل بغير إخلاص كالمسافر يَملأ جَرابه رملاً يُثقله ولا يَنفعه".



الإخلاص إكسير الأعمال الذي إذا وُضِع على أيِّ عملٍ - ولو كان من المُباحات والعادات، حوَّله إلى عبادة وقُربة لله تعالى.



9- رمضان وضبْط الأخلاق:

إن مكارم الأخلاق في الإسلام تمثِّل - بعد الإيمان ومع الإيمان - أعظمَ الأركان التي يقوم عليها بناء الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي، وفي ذلك يقول النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم))؛ أخرَجه أحمد والترمذي.



فالالتزام بمحاسن الأخلاق سبيلٌ لنَيْل الصلاح والسلامة، وطريق للفوز والنجاة؛ كما أخبَر النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((ما من شيء أثْقَل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسْن الخُلق، وإن الله يُبغض الفاحش البذيء))؛ رواه الترمذى، وقال: "حديث حسنٌ صحيح".



وحُسْن الخُلق كما عرَّفه القاضي عياض - رحمه الله - هو:

"مخالطة الناس بالجميل والبِشْر، والتودُّد لهم، والإشفاق عليهم واحتمالهم، والحِلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترْك الكِبر والاستطالة عليهم، ومُجانبة الغَلَط والغضب والمؤاخذة".



وعلاقة الصيام بالأخلاق واضحة؛ حيث إنَّ الصيام على وجهه الصحيح ليس مجرَّد الامتناع عن المُفطرات الحسيَّة - الطعام والشراب والجِماع - ولكنَّه يَشمل الابتعاد عن مساوئ الأخلاق ورذائلها؛ كما دلَّ على ذلك قول النبي - عليه الصلاة والسلام -:



((الصيام جُنَّة؛ فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يَرفُث ولا يَصْخب، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه، فليَقل: إنِّي امرؤ صائم))؛ مُتفق عليه؛ أي: عليه أن يَحفظ صيامه من الرَّفث وهو الفُحش ورَدِيء الكلام.



"ولا يَصْخب"؛ أي: لا يَصيح ولا يرفع صوته على الناس، وليَضبِط أعصابه، وليَملِك أمرَ نفسه، ولا يَجعل صومه شجارًا؛ فإنما جُعِل الصوم لتربية الإرادة وتهذيب الأنفس.



"فإن سابَّه أحد أو قاتَلَه، فليَقل: إني صائم إني صائم"؛ أي: لا ينبغي أن يقابِل السيئة بالسيئة، وإنما يُقابل السيئة بالحسنة؛ ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].



فهم خاطئ:

إنَّ كثيرًا من الناس لا يفهمون حقيقة الصيام، ولا يتصوَّرون منه إلاَّ الإمساك عن المُفطرات المادية؛ لذلك لا تختلف أحوالهم في شهر الصيام عن أحوالهم في غيره؛ بل رُبَّما زادَهم الصوم ضيقًا في الصدر، وطيْشًا وسرعة غضب.



وعن هذا الصِّنف من الناس يُحدثك الشيخ عبدالمنعم أبوسعيد، فيقول:

"ظنَّ كثير من الناس أنَّ الصوم إمساك عن الشراب والطعام، وليس إمساكًا عن الفواحش والآثام، فترَكوا ألسنتهم - وهم صائمون - تجول في أعراض الناس، تخوض في العورات، وتَنشر السَّوْءَات، يَفطمون أنفسهم عن الأكل والشرب، ويُغَذِّونها بأسوأ ما يتناوله إنسان من الفضائح والعيوب، وما جَدوى الصيام إذا لَم تتهذَّب به الألسنة، وتتطهَّر به النفوس، وتتعوَّد من الأدب الكريم والخُلق القويم؟ وما فائدة الحِرمان إذا لَم تكن من ورائه عِفَّة القول وسماحة الكلام، ولين الحديث؟



فهل يتدبَّر هذا أولئك الذين جعلوا الصيام إثارة للأعصاب، وتهييجًا للشرور، وأكلاً للحوم الناس، ووُلوغًا في أعراضهم، لا يكاد إنسان يتحدَّث إلى أحدهم حتى تثور ثائرتُه، ويَشتد غضبه وصَخَبه، ويَقذف لسانه بفُحش القول وهُجْر الكلام، ويقول الناس: "معذور؛ إنه صائم"! كلاَّ والله ما هو بصائم، ولو كان صائمًا، لكان مهذَّبَ الخُلق، رقيقَ العاطفة، يَملِك نفسه، ويُسيطر على أعصابه، يذكر دائمًا أنه صائم، وأنه قائم في عبادة ربِّه، فلا يَليق به أن يُفحش، ولا يَجمل به أن يُسلِّم نفسه للشيطان، ويُلطِّخها بالمآثم والعِصيان".



10 - رمضان ومحاسبة النفس:

إنَّ لحظات التأمُّل ومُكاشفة الذات، تُتيح للإنسان فرصة التعرُّف على أخطائه ونقاط ضَعْفه، وتدفعه لتطوير ذاته نحو الأفضل، فثمرة المحاسبة إصلاح النفس، وشهر رمضان ينبغي أن يشكِّل شهر مراجعة وتفكير، وتأمُّلٍ ومحاسبة للنفس؛ إذ حين يَمتنع الإنسان في هذا الشهر الكريم عن الطعام والشراب وبقيَّة الشهوات التي يلتصق بها يوميًّا؛ فإنه يكون قد تخلَّص من تلك الانجذابات الأرضية؛ مما يُعطيه فرصة للانتباه نحو ذاته ونفسه.



فشهر رمضان - كما يصوِّره الأستاذ محب الدين الخطيب -: "كعقرب الساعة الذي يصل إلى الموضع الذي يعقد الصائم جَرسها عليه، فيُنبِّهه إلى حلول الوقت الذي هو في انتظاره، فيخرج مما هو فيه؛ وكأنه كان نائمًا فاسْتَيْقظَ؛ فذلك مثل شهر رمضان مع غيره من أشهر السَّنة، يكون الناس قبله كالقافلة التي تَسري في جوف الليل لا تعرف من الوجود شيئًا غير أنها تسري، فيُطِل عليها القمر من وراء الجبال، فيبدو لها كلُّ أمر من أمورها كأنما هو جديد".



ورَحِم الله الإمام الفُضيل بن عِياض عندما قال:

"مَن حاسَب نفسه قبل أن يُحاسب، خَفَّ في القيامة حسابه، وحضَر عند السؤال جوابه، وحَسُن مُنقلبه ومآبُه، ومَن لَم يُحاسب نفسه، دامَت حَسراتُه، وطالَت في عَرَصات القيامة وقَفاته، وقادته إلى الخِزي والمَقْت سيِّئاته، وأكْيَسُ الناس مَن دان نفسه وحاسَبها وعاتَبها، وعَمِل لِمَا بعد الموت، واشتغلَ بعيوبه وإصلاحها".



ومجالات محاسبة النفس كثيرة وهي - كما ذكَرها د. مجدي الهلالي - تشمل:

- عبادة الجوارح: الصلوات الخمس في أوَّل وقْتها في المسجد، السُّنن الرواتب، أذكار الصلاة، صيام رمضان وصيام التطوُّع، مداومة الإنفاق في سبيل الله، أذكار الصباح والمساء، تحرِّي السُّنة في الأقوال والأفعال.



- معاصي الجوارح، مثل: الغيبة والنميمة، السخرية والاستهزاء بالآخرين، الجِدل والمِراء، الغَمز واللَّمز، الكذب واللغو والثَّرثرة، عدم غَضِّ البصر، الخوض في الباطل، سرعة الغضب، إخلاف الوعد.



- عبادات القلب: الخوف من الله واستشعار مراقبته، الرضا بقضاء الله وقدره، التوكُّل على الله، الصبر عند المصيبة، الشكر عند ورود النِّعم.



- معاصي القلوب: الإعجاب بالعمل والتسميع به، الضِّيق بالنقد، الحسد، الغرور والمُباهاة، المَنُّ بالعطايا، اتِّباع الهوى، احتقار الآخرين، وسوء الظنِّ بهم.



- الحقوق: حقوق الزوجة والأولاد الوالدين، الرَّحم، الجيران، حقُّ الطريق، الدعوة، الأُخوَّة.



- السلوكيَّات وفضائل الأعمال: السعي لقضاء حوائج الناس، لين الجانب، عيادة المريض واتِّباع الجنائز، الإحسان إلى الآخرين، وأداء الأمانات إلى أهلها.



وأودُّ أن أقِف معك أخي القارئ مع مجالين مهمَّين من مجالات محاسبة النفس:

1- اللسان والحصاد المُهلك:

إنَّ اللسان من أعظم الجوارح أثرًا وأشدها خطرًا؛ فإن استُعمِل فيما يُرضي الحقَّ، وينفع الخَلْق، كان من أكبر أسباب السعادة والتوفيق لصاحبه في الدنيا والآخرة، وإنِ استُعمِل فيما يُسخط الجبَّار، ويَضر بالعباد، ألْحَق بصحابه أكبر الأوزار وأعظم الأضرار.



فحِفْظ اللسان عن المآثم والحرام عنوانٌ على استقامة الدين وكمال الإيمان؛ كما أخبَر النبي - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يستقيم إيمان عبدٍ؛ حتى يستقيمَ قلبه، ولا يستقيم قلبه؛ حتى يستقيمَ لسانه))؛ رواه أحمد.



إخواني في الله، اللسان حَبْل مُرخًى في يد الشيطان، يُصرِّف صاحبه كيف يشاء إنْ لَم يُلجمه بلجام التقوى، أمَّا حين يُطلق للسانه العِنان ليَنطق بكلِّ ما يخطر له ببالٍ، فإنه يُورده موارد العَطَب والهلاك، ويُوقِعه في كبائر الإثم وعظيم المُوبقات؛ من غيبة ونميمة، وكَذب وافتراء، وفُحش وبذاء، بل ورُبَّما أفْضَى بالبعض إلى أن يُجرِّد لسانه مقراضًا للأعراض بكلمات تَنضَح بالسوء والفحشاء، وألفاظ تَنهش نهشًا، فيُسرف في التجني على عباد الله بالسخرية والاستهزاء، والتنقُّص والازدراء، وتَعداد المعايب، وتلفيق التُّهم والأكاذيب، وإشاعة الأباطيل؛ لذا جاءت وصيَّة النبي - عليه الصلاة والسلام - لمعاذ بن جبل: ((كُفَّ عليك هذا))، وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟! فقال: ((ثَكَلتك أمُّك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناس في النار على وجوههم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم؟!))؛رواه الترمذي.



أخي في الله، مشكلتنا أننا قد لا نتصوَّر الثمن الباهظ الذي يمكن أن ندفعَه لقاء امتلاء صحائفنا بحصائد الألسن وأرصدة الكلام، ولتقريب الأمر لنتصوَّر أنَّ مكالماتنا ومُحادثاتنا خلال عام مثلاً جائتنا في فاتورة كفاتورة الهاتف، لكنَّ فيها عددَ المكالمات ووقْتَها، وما فيها من حقٍّ وباطل، وخير وشرٍّ، وكم احتوَت من ثواب واشْتمَلَت على إثم، فكم ستكون صفحات تلك الفاتورة؟! وكم سندفع مقابل كلِّ صفحة منها؟!



من العجائب أنَّ أحدنا إذا تسلَّم فاتورة الهاتف التي تسجِّل مكالماته في دقائق لا تُقاس بساعات وأيَّام عُمره، ثم وجَد تلك الفاتورة بدقائقها وثوانيها عالية التكلفة فعليًّا، تصبَّب عرقًا، وتأمَّل في مكالماته هذه التي جَلَبت عليه تلك التكلفة العالية، هل تستحقُّ أن تُدْفَعَ فيها هذه المبالغ؟ وهل كانت لها قيمة توازي التكاليف؟



بعض الناس يأخذ نفسه بحزم زائدٍ، فيَطلب أن يكون هاتفه للاستقبال فقط وليس للإرسال؛ حتى لا يضطر لدفْع تكاليف الإرسال، والحصيف يفعل هذا مع لسانه عندما يُحيل بعض مهامه إلى الأذن؛ حيث يسمع أكثر مما يتكلَّم، فهو يخشى ألا تكون له قُدرة على سَداد فواتير كلامه يوم الحساب.



إن فاتورة الحساب الأُخروي على حصيلة كلامك - أيها الصائم - بالغة التركيب والتعقيد، ومُخرجك الوحيد للتخفُّف من ثِقَلها هو العمل بوصيَّة نبيِّك - عليه الصلاة والسلام - الحريص عليك عندما قال: ((أمْسِك عليك لسانَك))؛ أخرجه الترمذي[11].



2- اغتنام الأوقات:

إنَّ الأيام والليالي لتمضي على المرء أسرعَ ما تكون، لا تقف ساعة، ولا تُمهل لحظة، تتقلَّب كغمضة العين وانتباهتها، كأنها تَعْجَل بصاحبها إلى اليوم الموعود، يوم أن تَقِف أنفاسه عن التردُّد في أجوائها؛ ليوسَّد باطن الأرض بعد أن كانتْ تَدبُّ خطاه أعلاها، وما أقرب العهد بين ساعة الميلاد التي يخرج فيها المرء من ظُلمات ثلاث في بطن أُمِّه، وبين ساعة الفِراق حين يوارَى التراب، وما بين الساعتين عمرٌ يطول ويقصر نسبيًّا من شخص لآخر، إلاَّ أنَّ حقيقته أنه قليل مَهْمَا امتدَّت بصاحبه الأيام؛ ولذا كان نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - يوصي باغتنام الأوقات: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحَّتك قبل سَقَمك، وغِناك قبل فقرك، وفَرَاغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك))؛ أخرَجه الحاكم، وصحَّحه الألباني.



ولهذا فإنَّ للزمان في رمضان خصوصيَّة وقيمة، فمَن أضاع أوقاته، فقد قصَّر وظَلَم نفسه، ولَم يُنصفها في شهر من العام، وإضاعة أوقات رمضان يُقاس عليها - مع الفارق في الخسارة - ضياع أوقات العُمر، فمَن قصَّر في رمضان، فهو في بقيَّة عُمره أكثرُ تقصيرًا، وإذا غَفَل عن تصرُّف أوقاته وضياع ساعاته؛ فهو دليلٌ على ذهوله عن ملاحظة مراحل سفره بين انطلاقه أو وصوله، فراقِب مسيرة عُمرك، وقارِنه بمسيرة شهرك، وقضاء وقتك فيها؛ لتعلمَ أين أنت.



فيا مَن ضيَّع عُمره في غير الطاعة، يا مَن فرَّط في شهره، بل في دهْره وأضاعَه، يا مَن بضاعته التسويف والتفريط، وبِئست البضاعة.



يا مَن جعَل خَصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعَلته خَصمك الشفاعة؟!



هلاَّ جلسْتَ مع نفسك في لحظة صدقٍ، وقلتَ لها: وَيْحك يا نفس، أتعلمين أن كلَّ مَن يَلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأْنَس بها، فمصيره الموت؟



يا نفس، أوَمَا تنظرين إلى الذين مَضَوْا كيف بنوا وعَلوا ثم ذهبوا؟ أمَا ترينَهم كيف يَجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤمِّلون ما لا يُدركون؟! يَبني كلُّ واحد قصرًا مرفوعًا إلى جهة السماء، ومَقرُّه قبر محفور تحت الأرض، وَيْحك يا نفس، أما تَستحين من الله؟! تُزيِّنين ظاهرك للخَلْق، وتُبارزين الله في السرِّ بالعظائم، وَيْحك: أهو أهونُ الناظرين إليك؟! أتأمُرين الناس بالخير وأنت مُلطَّخة بالرذائل؟! فانظري يا نفس بأيِّ بدنٍ تقفين بين يدي الله؟! وبأي لسان تُجيبين؟! فأعدِّي للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا.



11- رمضان وتقوية الإرادة:

إن مدرسة الصيام تربِّي على الإرادة الجازمة والعزيمة الصادقة، التي تستطيع في ساعات الشِّدة أن تصبر على شهواتها، وتَنتصر على هواجسها، وتستعلي على أهوائها، فتسمو النفوس عن الولوج في الملذات، وتترفَّع عن الدنايا والأمور التافهات، ومن ثَمَّ يَملِك زمام نفسه، ويقف صامدًا أمام تيَّار المُغريات، فيَسهل عليه الائتمار بما أمَر الله - وإن كان شاقًّا على النفس، والانتهاء عمَّا نَهَى عنه - وإن كان محبَّبًا إليها.



والسر في ذلك أنَّ الصائم الذي يَفطم نفسه عن المآكل والمشارب، والشهوات الجسدية والنفسية، وهي على قيْد ذراع منه مدَّة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ثم يستمر على ذلك شهرًا كاملاً، لا بد أن يخرجَ من صومه وهو ذُو إرادة قويَّة حازمة.



فإذا كان الله تعالى في هذا الشهر الكريم منَعَك من الحلال، مَنَعك مما هو مُباح لك خارج الصيام، فأنت - خضوعًا لله وتنفيذًا لأمره، واستجابة له - تَدَع الطعام والشراب، وسائر المحظورات، فهل يُعقَل أن تدَعَ الطعام الحلال ثم تكذب؟!



هل يُعقَل أن تَدَعَ الطعام الحلال ثم تَغتاب مسلمًا؟! هل يعقل أن تَدَع الطعام الحلال ثم توقِع بين اثنين؟!



هل يعقل أن تضَعَ الطعام الحلال، ثم تغشَّ المسلمين في البيع أو الشراء، أو ترتكب الحرامَ وأنت صائم؟!



أخي في الله، "إنَّ الله لَم يحرِّم عليك الزاد والماء لتتعذَّب، ولكن لتتهذَّب، فإذا تمرَّنْت على ترْك ما هو ضروري لوجودك، سَهُل عليك ترْكُ الشهوات والمعاصي، وهي ليستْ من ضروريات وجودك، بل إنها العكس جناية على حياتك وخَطَرٌ على وجودك، وإذا كنتَ قد صبَرت على هجْر الطعام بمجرَّد العزم والتصيم على الصيام، فأنت بهذه الإرادة نفسها تكون أشدَّ اصطبارًا على مقاطعة القبيح، ومجانبة الحرام، وتلك حكمة من حِكم الله في تشريع الصوم"[12].



ولهذا يقول النبي - عليه الصلاة والسلام - فيما يَرويه عنه أبو هريرة - رضي الله عنه -: ((مَن لَم يَدَع قولَ الزور والعملَ به، ليس لله حاجة في أن يَدَع طعامه وشرابه))؛ رواه البخاري.



لذلك فإنَّ الذي لا يَدَع المعاصي والآثام في شهر الصيام وهو صائم، فصومه لا يرتقي إلى مستوى صوم الإنسان، فهو صوم ما دون الإنسان وحِرمان فقط، وجوع وعطش.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://YAO1FORUMALGERIE.NET
 
أنوار رمضان
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» كيف‭ ‬نستفيد‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬ا
» رمضان شهر المغفرة لكن؟
» رمضان... فرصة للتغيير
» اهلا بعباد رمضان !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
» اخراج زكاتك في رمضان

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
كتيبية القمر :: المنتدى الإسلامي :: الدعوة والارشاد-
انتقل الى: